Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
20 mai 2015 3 20 /05 /mai /2015 17:09
اصلاح المنظومة التربوية ، تصوّر جديد لمستقبل تونس

اصلاح المنظومة التربوية ، تصوّر جديد لمستقبل تونس.

محمد المناعي

 

ينشغل جزء من الرأي العام هذه الأيام بالحوار الوطني من أجل اصلاح المنظومة التربوية الذي ينتظم تحت اشراف كل من وزارة التربية و الاتحاد العام التونسي للشغل و المعهد العربي لحقوق الانسان . و رغم أن هذا الحوار لم يرتقي الى مستوى الحدث الذي يشغل المواطن و وسائل الاعلام و الأحزاب السياسية و مؤسسات الدولة و منظمات المجتمع المدني ولم يرتقي بعد الى المستوى الذي يجب أن يكون عليه فان عملية اصلاح المنظومة التربوية ليست مجرد حدث عابر بل بها و عبرها نصوغ مستقبل تونس لنصف قرن أو أكثر و بها نحدد أي مدرسة نريد ؟ ومن ورائها أي مواطن نريد ؟ و اي ثقافة نريد ؟و أي الى أي مصير نتجه ؟ بل نحدد من نحن و الى اين نمضي و أي تونس ستكون في المستقبل ؟
هذه التساؤلات هي البوصلة التي تقود كل خوض في اصلاح المنظومة التربوية و لعل الشراكة في ادارة الحوار لدليل على أن عملية الاصلاح ليست مجرد فعل تقني بحت يهم المختصين في الشأن التربوي بقدر ما تهم كل القوى الحية في المجتمع من تلميذ و مربي وولي و خبير و نقابي و سلطة سياسية وغيرهم ، في تفاعل مفتوح ومتنوع لكن أيضا في التزام بقيم عليا تقود الجميع و ترتفع بهم عن الرؤى الايديولوجية الضيقة و الشوفينيات المهترءة و التوازنات السياسية الظرفية الحالية و وهم الهويات المنغلقة ، و تجعل من القيم الكونية الانسانية الخيط الرابط و الضامن لمكونات منظومة تعليمية عصرية حداثية كما تجعل بنفس الدرجة من الانتماء الوطني لتونس و للهوية التونسية بكل أبعادها و روافدها البعد الوجداني للمدرسة التونسية .فالهدف هو خلق مواطن معتز بانتمائه الى وطنه بقدر انفتاحه و تفاعله مع الأجنبي متشبع بارثه الثقافي و الحضاري و بالارث الانساني دون تقوقع و لا انبتات .
لذلك فان المنظومة التربوية المنشودة مطروح عليها ضبط ملامح المواطن التونسي الفكرية و الحضارية و الثقافية و نظرته لنفسه و لماضيه و للأخر قبل مراجعة البرامج و المضامين التي بها يتم ترسيخ و صقل هذه الملامح ، فالمدرسة العصرية هي مدرسة المواطنة تساوي بين المتعلمين على اختلاف أجناسهم و أعراقهم و انتماءاتهم الجهوية و الطبقية و الدينية ، وتراعي التنوع الحضاري و الثقافي دون تعصب و تولي روافد الهوية التونسية الرعاية التي تستحق بدعم و تطوير اللغة العربية كلغة وطنية و النهوض بها عبر مشروع متكامل في مراجعة مناهج تدريسها و دعم البحوث لتطويرها لتتأقلم مع مستجدات الابتكارات العلمية و التقنية بعيدا عن الابعاد العاطفية للتعريب المتسرع .و دعم اللغات وخاصة لغات الشعوب المنتجة للفكر و العلم ، بنفس الدرجة الاهتمام بالرافد الاسلامي في الثقافة و المناهج لتتحول المدرسة المصدر الاساسي للمعرفة في الفكر الديني عبر مضامين تبين المستنير من تاريخنا و العقلاني عبر بيداغوجيا نقدية تقي الاجيال القادمة من ناحية من السقوط بين ايدي الجماعات و التوجهات الفكرية المتطرفة في حالة الفراغ المعرفي الذي تركته المدرسة و من ناحية أخرى وقاية الناشئة من التعصب و نشر ثقافة التنوع و التعدد و التسامح و حرية المعتقد و الضمير و صد الباب أمام كل تعليم ديني موازي يمكن أن يشوش على المدرسة المدنية و العصرية.
هذه الأهداف تكون بمراجعة جذرية لمناهج التفكير الاسلامي و اللغة و الحضارة العربية و تدريس اللغات و التاريخ و التربية المدنية و الفلسفة لتكون مواد زارعة للمحتوى الوجداني و الفكري و صاقلة لشخصية التونسي و بنائه النفسي و نظرته لنفسه و للمختلف عنه وتكون في ذات الوقت مدرسة للجميع له الحق في النفاذ اليها و الاستفادة منها بنفس الدرجة كمدخل لارساء عدالة اجتماعية عبر تكافؤ الفرص في تحصيل المعرفة .
لا يمكن تناول اصلاح المنظومة التربوية دون تنزيلها في اطار أشمل مأمول وهو ارساء منوال تنمية عادل و شامل و مستدام ، هذا المنوال يقوم أساسا و أولا على الاستثمار في المعرفة ، لا بالشكل الذي تكون فيه المدرسة مجرد محضنة لتمويل الاقتصاد بالكفاءات و التقنيين بل في تكامل بين الاهداف الاقتصادية و البرامج التعليمية و مخرجات المدرسة ، فخلق منوال تنمية عادل لا يكون الا أولا بعدالة في النفاذ للمعرفة عبر توزيع متوازن للمؤسسات و البنى التحتية التعليمية وربط البحوث العلمية و الجامعية بالأنشطة الاقتصادية المحلية و الجهوية في تكامل بين المخبر و المصنع و المزرعة، و الاستثمار في الاختصاصات العلمية و القطاعات الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية و المعتمدة على التجديد العلمي و التكنولوجي ،و التركيز على التعليم و التكوين التقني و المهني وتنمية المهارات و فتح قنوات الاتصال بين مراكز التكوين و المؤسسات الانتاجية لضمان التكوين المستمر و الرسكلة و النهوض بانتاجية العمال و مهارات الاطارات .. وهذا التوجه يتطلب منظومة تربوية و تعليمية ورؤية تنموية للدولة و للقطاع العام فيها دور القاطرة و الموجه و المبادر و المشجع ، لذلك فان العدالة في النفاذ للمعرفة يمر عبر العناية بالتعليم العمومي و المجاني و النهوض بجودته و تنظيم القطاع الخاص ليكون ساندا و مكملا للمنظومة العمومية لا بديلا ومهددا لها .
المدرسة العصرية التي ننشد مؤسسة نموذجية للتعايش بين مكوناتها باعتبارها مجتمع مصغر لذلك فان مراجعة العلاقات القائمة بين الأطراف المكونة لها أمرا ضروريا و ضبط المهام و التسيير الديمقراطي التشاركي عبر مجالس مؤسسات تراعي صالح المؤسسة وتجعل من الجميع منخرطا في انجاح رسالتها ، مراجعة الانتدابات و التركيز على الكفاءة العلمية و البيداغوجية للاطار التربوي وتنظيم المهن التربوية المختلفة تشريعيا و القطع مع التشغيل الهش و الانتداب العشوائي ، ترغيب التلميذ في الاقدام على تحصيل المعرفة و ضمان الاطار الملائم لذلك عبر النهوض بالتجهيزات وايلاء أهمية للبرامج التربية البدنية و الفنية من موسيقى و مسرح ونوادي بيئية و علمية و غيرها بما يحفز المتعلم و يقطع مع النظام التلقيني النظري المعتاد ، مراجعة الزمن المدرسي واعتماد نظام الحصة الواحدة بما يوفر للتلميذ الوقت الكافي لتنمية مهاراته و الترفيه و التواجد في بيئته الاسرية ، مراجعة المنظومة التأديبية بما يضمن الحفاظ على حرمة المؤسسة التعليمية و التربية على التعايش في مجموعة و الانضباط و المواظبة و في ذات الوقت احترام حقوق الطفل وتنشئته على الحوار لا على العقوبة ، توفير أخصائيين نفسيين و اجتماعيين و ادماج التربية الصحية و المواطنة و التدرب على الحوار و الممارسة الديمقراطية في أنشطة المدرسة سواء عبر البرامج الرسمية أو النوادي المدرسية ، تنظيم دروس الدعم و منع الدروس الخصوصية خارج اطار المؤسسة التربوية و اعتبارها تعليما موازيا، مراجعة التقييم وربط الارتقاء بالتحصيل العلمي و فتح الأفاق على التدريب المهني و الحد من التسرب المدرسي ... اضافة الى مراجعة منظومة التفقد و التكوين البيداغوجي نحو تجديد تقنيات التدريس و تحيين المناهج و البرامج دوريا تماشيا مع المتغيرات و في نفس الوقت ايلاء أهمية للتكوين المستمر للاطار التربوي .
ان اصلاح المنظومة التربوية مسار متواصل تعترضه عدة عراقيل ،يتطلب ضبط استراتيجيات و أهداف و تحقيقها تدريجيا لتكون مخرجاتها بعد جيل من الزمن وتذليل الصعوبات التي تحول دون المواصلة في النهج الاصلاحي ، لكن تضل هذه المساعي معزولة في ظل انخرام منظومات أخرى ذات علاقة وفي مقدمتها منوال التنمية والتوجهات العامة التي انتهجتها و لا تزال الحكومات المتعاقبة و التي جعلت من المدرسة التونسية حقل تجارب لاملاءات خارجية و منظومات مسقطة و مراجعات مرتجلة تحت ضغط الصناديق الدولية و رؤية القوى الرأسمالية الكبرى لمستقبل دولنا و لاستدامة تبعيتنا وارتباطنا بمنظوماتها الاقتصادية ، هذه الضغوط الخارجية تمثل تهديدا للبعد الاجتماعي للمدرسة و للمنظومة التربوية و تهدد في العمق التعليم العام لذلك فان اصلاح التعليم لا يقوم على حسن النوايا و التوافق حول الشعارات الكبرى بقدر ما يكون بالاصرار على تنفيذ مخرجات هذا الاصلاح و الحفاظ على مكاسب التعليم التونسي و دعمها و تعديل ما انحرف منها ، فاصلاح المنظومة التربوية هو مقاومة مستمرة للجهل و التخلف ولكن أيضا وخاصة مقاومة من الجذور للارهاب و التطرف و التبعية .

كتب 13 ماي 2015

 

 

اصلاح المنظومة التربوية ، تصوّر جديد لمستقبل تونس
Partager cet article
Repost0

commentaires

Présentation استقبال

  • : Manai Mohamed
  • : مدونة فكرية منفتحة على الواقع اليومي المعاش ... من أجل ثقافة أكثر عقلانية
  • Contact

Recherche بحث

Liens روابط